المادة    
  1. لا يكون المجنون ولياً لله تعالى والرد على من خالف ذلك

    ثم انتقل الشيخ إلى الموضوع الآخر وهو: ولاية المجنون فقال: وكذلك المجانين والأطفال. فهناك من يدعي أن المجنون ولي، وهذا كثير جداً، وأكثر ما جاء الضلال عند الصوفية هو من دعواهم: أن المجانين أو المجاذيب أولياء، وأن جنونهم بسبب ذكرهم، وأن حالهم يشبه حال الذاكرين إذا أقاموا حضرة وسماعاً تغنوا وطربوا، ثم صرع من صرع منهم؛ فصار مجنوناً يهذي، ويتكلم، ويتحرك، ويتكشف، ويتعرى كالمجنون، فيظنون أن الجنون درجة عليا من درجات الولاية، بل ربما فضل من يفعل ذلك ويقع له هذا الحال على الصحابة والتابعين، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصاب بمثل هذا الحالة إذا ذكر الله عز وجل، ولم يكن الصحابة يضربون حتى يصرعوا، وتظهر منهم حركات غير إرادية، ويتكشفون، وهم أعظم الناس إيماناً وذكراً، فضلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    فهؤلاء يخيل إليهم أن هؤلاء أفضل درجة من أولئك؛ لأن هؤلاء بلغ بهم الإيمان والتأثر بالذكر إلى أنهم يفقدون الوعي، فكأن هذا الذي فقد وعيه قد ارتقى إلى درجة أعلى من ذلك الذي لم يفقد وعيه.
  2. تحمل النبي والصحابة للواردات القلبية وكمالهم في ذلك

    وقد ذكرنا من قبل ونجمل الآن: أن أفضل الناس هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الذين كمل لديهم التأثر بالواردات الإيمانية التي ترد على قلوبهم، وكمل لديهم التحمل لها، فهم يجدون من المعاني الإيمانية ما لا يمكن أن يجده أحد بعدهم؛ لكن لديهم من قوة التحمل ما يجعل الواحد منهم يقرأ القرآن، ويذكر الله، ويسبحه، ويتفكر في ملكوت السموات والأرض ولا يفقد وعليه. وأما من حصل له خلاف ذلك: كمن يحصل له ما يطلق عليه: واردات القلوب، والمعاني الإيمانية؛ فلم يتحملها فيسقط مغشياً عليه، أو سمع آيات في ذكر الجنة أو النار فلم يتحمل ذلك فسقط وأغمي عليه؛ فهذا ضعف عن التحمل، وهو مأجور إن شاء الله، وهذا دليل على الإيمان، لكن لا نفضله على من تحمل ذلك مع استوائهما في قوة الوارد، هذا المتحمل والصابر والقوي والمتماسك أفضل، لكن المشكلة هي في النوع الثالث؛ الذين لا يرد على قلب أحدهم إلا معاني غير إيمانية، أو ضلالات، أو بدع، أو أوهام؛ ومع ذلك لا يتحملها، ويظن الأتباع، أو من ضل فيهم وظنهم من أكابر الأولياء؛ أنهم أفضل حالاً من الصحابة أو التابعين فمن هنا جاء الضلال.
  3. ولاية المجانين عند الصوفية

    ومن قرأ في طبقات الشعراني وأشباهها فإنه يجد أن الولي هو المتعري، والمجنون، والمتكشف، والذي يأكل من المزبلة، ويرتكب الفواحش أمام الناس، ولا يحضر جمعة، ولا جماعة، فهو مجنون بمعنى الكلمة، فلذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذا، وهم يظنون أن ذلك نتيجة الذكر والخوف، ويقولون في الثناء عليهم:
    مجانين إلا أن شر جنونهم             عزيز على أبوابه يسجد العقل
    فيمدحونهم بما ليس فيهم، فجنونهم ليس كجنون هؤلاء الذي عندهم أمراض عصبية، والعقل لا يستطيع أن يصل إلى سر جنون هؤلاء المجانين، فلو كان الأمر كذلك لكان أولى الناس بهذه الحالات وهذا الصرع وهذا الجنون هم أفضل الخلق، وأفضل الناس عبادة بعد الأنبياء وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الذين فضلهم الله واصطفاهم من هذه الأمة المباركة المصطفاة.
    إذاً: فلا يكون المجانين ولا الأطفال أولياء لله بهذا المعنى، ولذلك يقول شيخ الإسلام: (وكذلك المجانين والأطفال؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ )، وهذا الحديث رواه أهل السنن من حديث علي ، و عائشة رضي الله عنهما، واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول، لكن الصبي المميز تصح عباداته، ويثاب عليها عند جمهور العلماء).
    أي: أن الفرق بين الذي سبق ذكرهم: أن الصبي المميز تصح عبادته، ويثاب عليها، كما هو القول الراجح عند العلماء، ومن الأدلة على ذلك: صحة الحج، والأمر بالصلاة؛ لأنهم إذا أمروا بذلك فلا يمكن أن يأمر الله بشيء عبثاً، ولا يؤجر عليه فاعله، وأصرح من ذلك ما جاء أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألهذا حج؟ قال: نعم؛ ولك أجر )، فمادام أن له حجاً فعباداته صحيحة، وإذا كانت عبادته صحيحة فإنه يؤجر عليها.
    وكذلك يعاقب الطفل المميز؛ ولو من باب العقوبات التأديبية التعزيرية في الدنيا، فهذا جانب يختلف فيه الطفل عن المجنون، والمهم في الذكر هنا هو المجنون؛ لأن هؤلاء الأولياء المزعومين هم مجانين، أو ممن يسمون: بمجانين الأولياء.
    قال: (وأما المجنون الذي رفع عنه القلم فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء، ولا يصح منه إيمان ولا كفر)، فلا يقال: إنه مؤمن، ولا يقال: إنه كافر؛ لأنه فاقد لمناط التكليف وهو: العقل.
    قال: (ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات)، ولهذا نجد بعض العلماء في الفقه يطيلون في هذه الأمور، فيذكرون في شروط الحج، أو الصلاة: الإسلام، والعقل، والتمييز، والبعض لا يذكرها؛ لأنه من البدهي أن يكون مسلماً؛ لأننا لا نتكلم إلا عن المسلمين، فالبعض يذكرها والبعض لا يذكرها فمن لا يذكرها، إنما ذلك لبداهتها ووضوحها؛ لأنه لا يخاطب بأحكام الله إلا من يعقل، وأما المجنون فالقلم مرفوع عنه، ولا تصح منه أي عبادة.
    بل يقول شيخ الإسلام: (بل ولا يصلح هو عند عامة العقلاء لأمور الدنيا كالتجارة والصناعة). أي: أن أهل الدنيا لا يولون المجنون تجارة، ولا صناعة، (فلا يصح أن يكون بزازاً، ولا عطاراً، ولا حداداً، ولا بخاراً) ولا أي عمل آخر.
    قال: (ولا تصح عقوده باتفاق العلماء، فلا يصح بيعه، ولا شراؤه، ولا نكاحه، ولا طلاقه، ولا إقراره، ولا شهادته ولا غير ذلك من أقواله، بل أقواله كلها لغو لا يتعلق بها حكم شرعي لا إيجاباً ولا سلباً، ولا يتعلق بها ثواب ولا عقاب؛ بخلاف الصبي المميز).
  4. اعتبار أقوال الصبي في مواضع دون أخرى

    فالمقصود: أن من كان هذا حاله فلا يمكن أن يكون ولياً لله تعالى بأي حال من الأحوال.
    يقول: (بخلاف الصبي؛ فإن له أقوالاً معتبرة في مواضع بالنص والإجماع، وفي مواضع فيها نزاع) أي: أن الصبي المميز يعتبر كلامه في مواضع، ولا يعتبر في مواضع أخرى، ويختلف الفقهاء في مواضع أخرى، فنعتبر كلامه في الرواية إذا كان ثقة وحافظاً ومتقناً، فلا نشترط في الصحابي أن يكون بالغاً إذا روى حديثاً ما، كما قال محمود بن الربيع : ( عقلت مجة مجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهي )، فهو يتكلم بهذا بعد أن بلغ، فلا نشترط في ذلك البلوغ.
    وتصح إمامته، كما أم عمرو بن سلمة بعض القوم، ولو جاهد لصح جهاده، وتقبل شهادة بعضهم على بعض، فإذا كانوا مجتمعين مع بعض ولا نستطيع معرفة حكم إلا عن طريق شهادة بعضهم على بعض؛ فتقبل، بخلاف شهادة الطفل فيما يتعلق بالعقلاء.
    فالمهم: أن الأطفال لهم أقوال تعتبر، وإن لم تعتبر بينات فهي تؤخذ كقرائن، وأما المجنون فلا تؤخذ منه قرينة، ولا تؤخذ منه بينة.
  5. رد أقوال المجنون ونطق الشيطان على لسان أحياناً

    يقول شيخ الإسلام: (وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان، ولا التقوى، ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل، وامتنع أن يكون ولياً لله؛ فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله؛ لا سيما أن تكون حجته على ذلك إما مكاشفة سمعها منه، أو نوع من التصرف).
    قوله: (مكاشفة سمعها منه)، أي: أن يقول: هذا المجنون ولي، فإذا قيل له: كيف عرفت أنه ولي؟ قال: لقد حدثني بأمر من أمور الغيب ما أخبرني به قبله أحد، فوجدت أن ذلك حق، أو حدثه بأمر يجهله المخاطب فصدقه، فإذا قيل: كيف تفسر إخباره بشيء لا يستطيع أن يعرفه حتى لو كان عاقلاً؟
    فنقول: إن الشياطين تكلمت على لسان المصروع، حتى إن الضرب الذي قد يضرب به من به مس وقد تلبس به جني؛ لا يقع على الآدمي، وإنما يقع على الجني، وهذا معروف مشاهد، ومن أنكر ذلك ممن يدعون أنهم أصحاب عقول، أو العقلانية؛ فهم أصحاب جهل، فهذا أمر معلوم قديماً وحديثاً أن الشياطين تتلبس بالإنس.
    وقد ذكر الله ذلك في القرآن، قال تعالى: (( الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ))[البقرة:275]، فهذا الذي يتخبطه الشيطان من المس قد ينطق بكلام لا ينطق به الإنس، ولو ضرب فلا يشعر بذلك الضرب الإنسي، وغير ذلك من الأمور، حتى إن الرجل الإنسي المصاب قد يكون من بلد ولا يعرف لغة غير لغة بلده، فإذا تلبس به الشيطان تكلم بلغة غير لغته، أو أتي بعلوم لا يعرفها ذلك المصروع، فنعلم أن ذلك ليس من علمه، ولا من كلامه.
    فهذا يدل على أنه لو أخبرك أحد من أهل الجنون عن أمر غائب فكان الأمر كما قال؛ فإنك لا تعتقد بناءً على ذلك أن هذا المجنون ولي؛ لأن الشياطين قد تخبر على لسانه بحق أو بباطل، ولذلك يكثر في مثل هؤلاء -القائلين بهذا القول- الضلال؛ لأن الشيطان المتلبس به قد يكون بوذياً، أو نصرانياً، أو يهودياً، فإذا تلبس بأحد من هؤلاء المجانين المزعوم أنه ولي وعابد من العباد، وأنه إنما جن من كثرة العبادة والذكر والتسبيح، وأخذوا يسألونه فربما أجابهم بكلام يقتضي الحلول، أو وحدة الوجود، تعالى الله عما يصفون، أو تصحيح شيء مما في الأناجيل مما هو كفر وتحريف، أو غير ذلك من الضلالات، فيؤخذ على أنه كلام مسلَّم وإن خالف القرآن والسنة.
    والله تعالى قد أغنانا عما يلقيه الشيطان إلى المجنون بما يلقيه الملك الروح الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم، فعندنا الوحي من القرآن والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف نقبل ما يخالف الوحي الذي نزل به الروح الأمين؛ على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ووصلنا وبلغنا عن طريق التواتر، أو عن طريق السند الصحيح من السنة؟ كيف يمكن أن ندع هذا ونأخذ كلام مجنون؟!
  6. اضطراب أقوال المجانين بحسب ديانة الشيطان الذي ينطق على لسانه

    ومن الأدلة التي تبين ضلال هؤلاء: أن هؤلاء المجانين كل منهم ينطق بأقوال تخالف أقوال الآخر؛ لأن كل شيطان له رأي، فهذا شيطانه يدين بـالهندوسية ، وهذا بـالبوذية ، وهذا بـالنصرانية .. وهكذا فيتباينون، فالعاقل لو كان يميز ويرى لعلم أن هؤلاء لا يؤخذ منهم شيئاً مما يقولون، فليس في الأمر أكثر من أن الشيطان الكافر تكلم على لسان هذا الرجل، فكأنك بدلاً من أن تأخذ الكفر من إنسي عاقل فإنك تأخذه من إنسي يتكلم على لسانه شيطانه المتلبس به، فالكفر واحد سواء جاء من تلك الطريق، أو من غيرها، والإيمان والحق إنما يؤخذان من كتاب الله، وسنة رسوله الثابتة، ولهذا نجد أن الله جعلهما نقيضين لا يجتمعان.
  7. الفرق بين كلام الأنبياء والكهان

    وهذا بخلاف قول المشركين: إن هذا القرآن كلام شاعر، أو كلام كاهن، والكاهن معروف عندهم أنه تلقى من الشياطين، وهذا من أعظم ما رد به الكفار الإيمان بالوحي، فإنهم ظنوا أن الشياطين تتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا ميز الله في آيات واضحة كثيرة بين الكلام الملقى من طريق الملك، وبين ما يلقى إلى الكاهن، وبين ما يقوله الشاعر، كما في قوله: (( وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ))[الشعراء:210-212]، أي: فيما يتعلق بالوحي وكلام الله فهم معزولون عنه، ومن سمع منه شيئاً فإنه يتبعه شهاب مبين، وقد وضع الله بعد بعثة النبي على السماء الحراسة المشددة، فكانت النجوم من قبل تتساقط في الحين، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم قوي هذا الأمر، وأصبح واضحاً جلياً يراه كل أحد، فتسقط على هؤلاء الكذابين المفترين.
    ثم قال بعد ذلك: (( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ))[الشعراء:221-223].
    إذاً: فحال هذا غير حال هذا؛ فالأفاك الأثيم غير الطاهر الصادق الأمين، فالروح الأمين ينزل، وهو غير ذلك الشيطان، فالشيطان إنما ينزل على الأفاك الأثيم.
    ثم قال: (( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ))[الشعراء:224]، وهذا أيضاً لنفرق بين الشاعر، والكاهن؛ والرسول، وهناك وجه شبه وهو: أن كلاً من هؤلاء يتلقى، والشاعر قد لا يتلقى لكن لديه سبب خفي لطيف يقع له، فالله تعالى يوضح أن الفرق واضح، وهو: أن القرآن ليس بقول كاهن، ولا بقول شاعر، (( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ))[يس:69]، فالقرآن كلام الله يتنزل به الملك على محمد صلى الله عليه وسلم، (( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ))[الشعراء:193-195] فلا يمكن أن يدخله اللبس، وأما الكهّان فهم أفاكون آثمون دجالون وكان العرب إذا ذهبوا إليهم يخبئون خبئاً؛ حتى ينفق كذبهم، فيقولون للكاهن: خبئنا لك شيئاً، فيقول الكاهن: كذا، فإذا عرف ما خبئ سألوه، وقالوا: إذاً هذا عنده علم بالغيب.
    ويذكرون هنا قصة لا يهمنا سندها أو صحتها وهي: أن أبا سفيان أو غيره ذهب إلى أحد الكهان وقد خبأ حبة في إحليل أحد الخيول، فقالوا للكاهن: خبئنا خبئاً ما هو؟ قال: ثمرة في كمرة، قالوا: زد وضوحاً، قال: حبة بر في إحليل مهر. وهذا السجع طريقة الكهان دائماً، ثم بعد ذلك يسألونه عما يريدون، وهذا كثير في أخبار العرب وأشعارهم في الجاهلية أنهم يخبئون. وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع ابن صياد ، فقد خبأ الدخان، فقال: ( دخ دخ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اخسأ، فلن تعدو قدرك )، يعني: إنما أنت كاهن دجال، وليس كما يزعم أنه يوحى إليه، ففرق كبير بين هؤلاء وبين الأنبياء.
  8. الفرق بين كلام الأنبياء وكلام الشعراء

    وأما الشعراء فحالهم في كل الأزمنة والعصور واحد، وحالهم يدل على أنهم ليسوا ممن تتنزل عليهم الملائكة، أو تحدثهم، أو تلقى إليهم، وسيأتينا موضوع التحديث أو الإلهام، فللملك لمة، وللشيطان لمة على قلب ابن آدم ، فهؤلاء ليس كلامهم من جنس ما تلقيه الملائكة؛ إلا من استثنى الله منهم: (( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ))[الشعراء:224]، إذاً فهم من أكثر الناس غواية إذا كان يتبعهم الغاوون.
    (( أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ))[الشعراء:225]، وهذا مما يفترق به كلام النبوة عن كلام هؤلاء، فاقرأ كلام أي نبي من أنبياء الله فإنك تجده لا يتناقض ولا يتغير، فهو حق كله، ويصدق بعضه بعضاً، ومهما كثر كلام الأنبياء فإنك تجده في موضوع واحد وهو: تحقيق العبودية لله ظاهراً وباطناً، وإصلاح وتزكية النفس، لكن لو نظرت إلى كلام الشعراء فإنك تجدهم في كل واد يهيمون، فيمدح أحدهم الشيء اليوم ويهجوه غداً، ويتكلم بكلام الفلاسفة في موضوع، وبكلام الساقطين في موضوع آخر، وبكلام الساسة في موضوع آخر، وبكلام العلماء في موضوع آخر، فيتكلم في أي موضوع، وكل ديوان شعر تجده أنواعاً وأخلاطاً، ولا يبالي أحدهم أن يذم ما مدح، أو أن يمدح ما ذم بالأمس فهذا وارد عنده، وهذا يدل على أنه ليس وحياً، وليس حقاً مطرداً إلا من استثناهم الله؛ لأنهم ربطوا قلوبهم بالوحي، (( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا ))[الشعراء:227]، لأن ذكر الله يزيل ما يلقى في القلب مما جاء في الحديث: ( لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خيرٌ له من أن يمتلئ شعراً ) أي: من هذا الشعر الذي لا خير فيه، فذكر الله يجعل كلامهم وشعرهم حقاً. فالفرق واضح بين هؤلاء.
    والشبهة التي قد تدخل على بعض الناس ويجعلون المجنون ولياً هي المكاشفة، وأنه أخبر بأشياء، فنقول: إن هذا من جنس ما يلقيه الشيطان إلى الكهان.
    يقول شيخ الإسلام: (مثل أن يراه وقد أشار إلى واحد فمات أو صرع). وهذا طبيعي؛ لأن شيطانه المتلبس به عندما يشير إلى رجل آخر، فإنه يرسل جنداً من جنوده -ونحن لا نراهم- فيصرع ذلك الرجل، فيقولون: هذا ولي من أولياء الله.
    يقول: (فإنه قد علم أن الكفار من المشركين وأهل الكتاب لهم مكاشفات، وتصرفات شيطانيه كالكهان، والسحرة، وعباد المشركين، وأهل الكتاب).
    فهؤلاء لهم تصرفات شيطانية، ومما ذكره العلماء ومنهم شيخ الإسلام رحمه الله، وهو مذكور قبله في التاريخ: أن النصارى كانوا يستخدمون السحر في أعيادهم؛ حتى يبرهنوا للعوام على أن دينهم حق، فيجتمعون يوم العيد ويقولون: إن العذراء تتنزل، فيرسمون صورة، وهذه الصورة تكون من خيوط مدهونة بزيت، فإذا أشعل فإنه يتحول إلى نور، ولكن لا تأكله النار، فتظهر صورتها، فإذا اجتمعوا يأتي الراهب الساحر الدجال فيقدح فتشتعل، فتظهر الصورة، فيقولون: تنزلت علينا العذراء، وأمثال ذلك من الحيل التي هي من البشر، فما بالك بما كان من حيل الشياطين! فأي إنسان يستطيع أن يفعل مثل هذه الأمور إذا عرف سر خواص بعض المواد التي جعلها الله فيها؛ كأن تكون تشتعل أو لا تشتعل أو ما أشبه ذلك، فلو كانت العبرة بالمكاشفات أو المخاطبات أو نحو هذه الأمور لكان دين النصارى ، ودين اليهود حق والعياذ بالله، ونحن لا نشك أن هذا باطل.
    يقول: (فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص ولياً لله، وإن لم يعلم منه ما لا يناقض ولاية الله؛ فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله)! أي: لو كان لا يناقض الولاية كأن يكون من أهل الدين، ومن أهل الصلاة؛ لكنه يصرع فتتلبس به الشياطين فيقول أشياء من هذا القبيل؛ فلا تعتقد أنه ولي، فكيف إذا كان ممن يعتقد ما يضاد وينافي الولاية؛ كأن يكون ممن يترك الجمعة والجماعات، ويخالط الأجنبيات، ويتقرب ويتعبد بالسماع والدفوف وما أشبه ذلك في الحضرات، فهذا أصل مخالف للشرع، فكيف يظن أنه ولي في حال تلبس الشيطان به؟!
    يقول: (فمثل هؤلاء من لا يعتقد وجوب اتباع النبي باطناً وظاهراً) بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر دون الحقيقة الباطنة، كما يقول بعضهم: إن الناس يجب عليهم أن يتبعوا الشريعة في الظاهر، وأما في الباطن فيتبعون الحقيقة، فيميزون بين الشريعة والحقيقة، وبين الظاهر والباطن، أو يعتقد أن لأولياء الله طريق إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم السلام، وهذا لا يمكن أن يكون ولياً لا في حال صحوه، ولا في حال جنونه من باب أولى.
    يقول: (أو يقول: إن الأنبياء ضيقوا الطريق، أو هم قدوة العامة دون الخاصة، وهذا كفر، ويريد أن يعبد الناس الله كما يشاءون؛ كما هو حال البوذيين وغيرهم ممن يرون أن المهم هو أن يتقرب إلى الله، وهذه هي دعوى الماسونية في العصر الحديث، فهي تتستر تحت ما يسمى بوحدة الأديان، وأن الأديان كلها حق، وأن الإنسان يعبد الله كما يشاء، وهذا كله باطل معلوم البطلان من الدين بالضرورة.
    قال: أو يقول: إنهم قدوة العامة دون الخاصة، وأما من بلغ درجة اليقين وأصبح يخاطب -أي: يكاشف- فلا يقتدي بالأنبياء في العبادة والعياذ بالله، وهذا قول كثير من الطوائف منهم غلاة الصوفية ، و الباطنية ، و القرامطة ، و المتفلسفة وأمثالهم الذين يرون أن الأنبياء وشرائعهم إنما جاءت للعامة، وأما الخاصة فعندهم الحكمة أو كلام الحكماء، فكل فرقة وطائفة لها دين ومصدر.
    وهذا يشبه من وجه ما يتردد الآن من أن الدين والإسلام واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والتمسك بسنته ظاهراً وباطناً يصلح للعصور القديمة أي: عصور ما قبل هذه النهضة الحديثة كما يدعون، أو التطور الصناعي الحديث، أو الحضارة الغربية، فما قبل ذلك يمكن أن يتدين الناس، وأما بعد ذلك فلا يصلح له هذا الدين، وقريب من هذا قول من قال: إن الدين للعامة دون الخاصة، والفرق أن هؤلاء يرون أن الخصوصية جاءت من الزمن ومن الحضارة، وأما أولئك فيرون أنه حتى في ذلك الزمن هناك عامة وهناك خاصة، وهذا كله كفر، وتكذيب لكلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يقوله أحد بذلك ويظل على إيمانه فضلاً عن أن يكون ولياً لله.
  9. عبادات المجنون حال إفاقته

    ثم قال: (والمجنون في حال إفاقته إذا عبد الله عبادة مشروعة كأن يصلي ويصوم ويتصدق؛ فإنه يقبل منه ذلك، ويثاب ويؤجر عليه، فإذا غلبه الجنون فإنه يرفع عنه القلم، وكذلك لو أفاق وعمل ما يلام عليه، أو يعاقب عليه، فإنه أيضاً يستحق الذم والعقاب إما في الدنيا أو في الآخرة، فقد جعل الله لكل شيء قدراً).
    فهذا من الحق، فالمجنون في حال إفاقته واستقامته يكون ولياً بالمعنى العام ما دام يؤدي الفرائض، أي: من عامة المؤمنين الذين هم أولياء الله، ولو كان هذا المجنون يتعبد إذا أفاق بالنوافل بعد الفرائض فإنه يكون من أهل الولاية الخاصة، ولايته جاءت من عبادته حال إفاقته، وهذا من العدل من شيخ الإسلام رحمه الله.
    وهناك حالة أخرى وهي ما يسمى: بالمتولّه، أي: أصحاب الوله أو المجاذيب، يقول الشيخ: (فعلى هذا فمن أظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض، ولا يجتنب المحارم، بل قد يأتي بما يناقض ذلك؛ لم يكن لأحد أن يقول: هذا ولي لله، فإن هذا إن لم يكن مجنوناً، بل كان متولهاً من غير جنون، أو كان يغيب عقله بالجنون تارة ويفيق أخرى، وهو لا يقوم بالفرائض، بل يعتقد أنه لا يجب عليه اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهو كافر).
    فأكثر ما يقوله الصوفية : إن هذا ليس بمجنون، أي: لم يتلبس به شيطان، ولم يصرع، لكن ذلك من شدة الوله كما يزعم البعض، والوله: هو شدة المحبة، وقد قلنا: إن حقيقة العبادة هي المحبة ودرجاتها، ومن هنا قيل: إن الإله بمعنى مألوه، أي: محبوب، فهو الذي يحبه الناس إلى حد الوله، لكن المقصود هنا معنى آخر، فالوله هنا يجعل صاحبه يفقد وعيه، ويغيب عن حسه، فهذا ليس مجنوناً صرفاً، وهو أيضاً ليس عاقلاً صرفاً، فإذا ذكر الله وسبح الله فإنه يفقد صوابه، فيصاب بهذه الحالة التي تسمى: الوله، فإن كان مجنوناً أو متولهاً على أي حال: فإنه إن كان في حال إفاقته مؤمناً متقياً لله عز وجل فهو في ذلك له ولاية، وإن كان في حال إفاقته فيه كافر أو نفاق، ثم طرأ عليه الجنون؛ ففيه من الكفر والنفاق ما يعاقب عليه، وجنونه لا يحبط عنه ما حصل منه حال إفاقته، كما أن جنونه لا يحبط عمله الصالح الذي عمله حال إفاقته.
    إذاً: فدعاوى الصوفية بأن الجنون علامة الولاية دعاوى باطلة.